قال الامام البشير الابراهيمي رحمه الله :
القرآن كتاب الإنسانية العليا, استشرفت إليه قبل أربعة عشر قرنا حين ضامها أبناؤها فعقوها, فارتكسوا في الحيوانية السفلى, فأخلدوا إلى الأرض, فأكثروا فيها الفساد, فأنزله الله من السماء ليصلح به الأرض وليدل أهلها المستخلفين عليها من بني آدم, على الطريق الواصلة بالله ويجدد ما رث من علائقهم به.
وما أشد شبه الإنسانية اليوم بالإنسانية قبيل نزول القرآن, في جفاف العواطف, وضراوة الغرائز, وتحكم الأهواء, والتباس السبل, وتحكيم القوة, وتغول الوثنية المالية, وما أحوج الإنسانية اليوم إلى القرآن, وهي في هذا الظلام الحالك من الضلال, وقد عجز العقل عن هدايتها وحده, كما عجز قديما عن هدايتها, لولا تأييد الله له بالأمداد السماوية من الوحي الذي يقوي ضعفه إذا أدركه الوهن, ويصلح خطاه إذا اختل ميزانه.
وكما أتى القرآن لأول نزوله بالعجائب والمعجزات, في إصلاح البشر فإنه حقيق بأن يأتي بتلك المعجزات في كل زمان, إذا وجد ذلك الطراز العالي من العقول التي فهمته, وذلك النمط السامي من الهمم التي نشرته وعممته, فإن القرآن لا يأتي بمعجزاته, ولا يؤتي آثاره في إصلاح النفوس إلا إذا تولته بالفهم عقول كعقول السلف, وتولته بالتطبيق العملي نفوس سامية وهمم بعيدة, كنفوسهم وهممهم, أما انتشاره بين المسلمين بهذه الصورة الجافة من الحفظ المجرد, وبهذا النمط السخيف من الفهم السطحي, وبهذا الأسلوب التقليدي من التفسير اللفظي – فإنه لا يفيدهم شيئا, ولا يفيد بهم شيئا, بل يزيدهم بعدا عن هدايته, ويزيد أعداءهم استخفافا بهم, وإمعانا في التكالب عليهم, والتحكم في رقابهم وأوطانهم.
ولو فهمنا القرآن كما فهمه السلف, وعملنا به كما عملوا به, وحكمناه في نفوسنا كما حكموه وجعلنا أهواءنا ومشاربنا تابعة له, وموزونة بميزانه – لو فعلنا ذلك لكنا به أعزة في أنفسنا وأئمة لغيرنا.
تفسير القرآن تفهيم لمعانيه وأحكامه وحكمه وآدابه ومواعظه, والتفهيم تابع للفهم: فمن أحسن فهمه أحسن تفهيمه, ومن لم يحسن فهمه لم يحسن تفهيمه وإن كتب فيه المجلدات, وأملى فيه ألوف المجالس.
وفهم القرآن يتوقف – بعد القريحة الصافية والذهن النير- على التعمق في أسرار البيان العربي, والتفقه لروح السنة المحمدية المبينة لمقاصد القرآن, الشارحة لأغراضه بالقول والعمل, والإطلاع الواسع على فهوم علماء القرون الثلاثة الفاضلة, ثم على التأمل في سنن الله في الكائنات, ودراسة ما تنتجه العلوم الاختبارية من كشف لتلك السنن وعجائبها, وقد فهمه السلف حق الفهم ففسروه حق التفسير, مستعينين بإرشاده على فقه سنن الأكوان.
ولو لم ينحسر تيار الفهوم الإسلامية للقرآن بما وقف في سبيله من توزع المذاهب والعصبيات المذهبية لانتهى بها الأمر إلى كشف أسرار الطبيعة ومكنونات الكون, ولسبق العقل الإسلامي إلى اكتشاف هذه العجائب العلمية التي هي مفاخر هذا العصر.
كان علماء السلف يشرحون الجانب العملي من القرآن على أنه هداية عامة لجميع البشر يطالب كل مؤمن بفهمها والعمل بها, وكانوا يتحاشون الجانب الغيبي منه لأنه مما لا يصل إليه عقل المكلف, فلا يطالب بعلمه ولا يحاسب على التقصير فيه, وكانوا ينظرون إلى الجانب الكوني منه نظرات مسددة لو صحبها بحث مسدد ممن أتى بعدهم.